تظهر قيمة السياسة دائما بمدى تناسبها مع الواقع الإنسانى الذى تنطلق منه وتتعامل معه ، وتعتمد على حقائقه ، وهى تدير شئون الناس ، وأثناء توجهها إلى المجتمعات الأخرى، ولذلك جرى منهجى فى كتابة سلسلة " تاريخ الدعوة إلى الله تعالى " أن أبرز الملامح العامة للدول ، والمجتمعات التي لها صلة بالشخصية التي أكتب عنها ، وأجعل ذلك أساسا لتحديد قيمة العمل والنشاط الذي قام به الولاة ، والدعاة ، والمفكرون مع هذه المجتمعات.                                   

إن الخلافة في الإسلام تعني رعاية شؤون المسلمين ، والانطلاق بالدعوة إلى العالم كله ، ولذلك كان التعريف بأحوال المجتمعات فى أى عصر من العصور مقدمة ضرورية لظهور الأدوار العلمية ، والعملية التي قام بها رجال الحكم والسياسة مع هذه المجتمعات، إن الإسلام فى عالميته يشمل العالم كله ، وقد رأينا أن أحداث العصور الأولى دارت فى محيط العالم البشرى المعروف للمسلمين يوم ذاك ، ولذلك أجادوا وهم يدعون الله ، ويتعاملون مع الآخرين...فى مؤلفاتى السابقة عشت مع رسول الله ، ومع أبى بكر وعمر رضى الله عنهما ، ورأيت عنايتهم بحماية الدين ، ورعاية مصالح الناس ، وكيفية إدارتهم شئون الحياة ... وقد وفقهم الله تعالى إخلاصهم ، وصدقهم ، وتفانيهم فى القيام بالواجب المطلوب .

عثمان بن عفان أحد رجالات مكة المشهورين في الجاهلية والإسلام ، تميز بالذكاء والفهم ، واشتهر بالغنى والثراء ، وعرف بالكرم والسخاء ، وتمتع بحب الناس بما أظهره من حسن السيرة والخلق ... وهو من السابقين إلى الإسلام ، وأحد الكبار الذين هاجروا بدينهم إلى الحبشة وإلى المدينة المنورة .كان الحياء جبلة فيه ، دفع كل من تعامل معه على أن يكون حييا معه ، حتى أن الملائكة تستحيى منه كما أخبر النبي  بذلك حين قال : " ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة "!! .. وكان لعثمان مواقف عظيمة قبل إسلامه ، وبعده ، وقد ادخر القدر الإلهى فخراً له ، وذكراً ، إذ قدر له أن يتزوج ببنتى رسول الله ، وأنزله فى قلوب من اتصل به إنساناً محبوباً ، ورجلاً صادقا ، وشخصية مرغوبة ودودة، وحين نكتب عن عثمان فعلينا أن نتحدث عن أصله ، ونسبه ، وسيرته قبل الإسلام ، وبعده ، وسلوكه مع رسول الله ومع خليفته أبي بكر ، وعمر رضى الله عنهما قبل أن نتحدث عنه خليفة للمسلمين .

 عثمان بن عفان هو الخليفة الثالث بعد أبى بكر وعمر رضى الله عنهما وقد قامت خلافتهم جميعاً على أسس إسلامية ، وإن اختلفت صورها ، وتعدد نشاطها وعملها .. لم يعرف العالم يومذاك نظام الدولة المستقرة إلا فى فارس والروم ، وكان ملوكها يتوارثون الحكم باسم الحق المقدس ، فهم الآلهة فى فارس ، وهم ممثلو الإله فى الروم ... وخضعت الجماهير فى الإمبراطوريتين للولاة ، والسلاطين وصاروا عبيداً لا يملكون إلا الطاعة ،  لا يعرفون حقاً ، وليس لهم نصيب فى المال ، أو السلطة ، أو جمال الحياة إلا ما تنازل عنه الملوك والسلاطين لمن يشاءون من الرعايا .

بدأ عثمان بن عفان خلافته بدولة منظمة ، لها مؤسساتها ، وأنشطتها المختلفة ، وسار على ما صنعه عمر بن الخطاب ، ولذلك نجد فى دولة الخلافة عددا من المؤسسات التنظيمية تشبه إلى حد كبير مؤسسات الدولة الحديثة، وعلى رأس هذه المؤسسات نجد مؤسسة التشريع فى دولة الخلافة ، فمع أن أساس المشروعية هو الوحى المنزل إلا أن النصوص الثابتة بالوحي تحتاج إلى من يفهمها ، ويتفاعل مع تطبيقاتها فى حياة الناس ، ولذلك كان الاجتهاد ، وكانت الشورى من أساسيات مؤسسة التشريع ، وبذلك سارت الدولة الإسلامية على أحكام الله تعالى ، والتزمت بشرعه الحنيف، ونجد مؤسسة الإدارة والولايات ولها أسسها فى اختيار الولاة ، وتحديد حقوقهم ، وواجباتهم ، ومسئولياتهم ، وكيفة تعاملهم مع الخليفة في المدينة المنورة .

 تولى عثمان بن عفان  الخلافة بعد عمر بن الخطاب ، ووجد نفسه والأمة فى وضع صعب أمام أعدائها ... فلقد توسع عمر بن الخطاب فى الفتح ، ووصل المجاهدون المسلمون شرقا إلى أفغانستان وشرق دولة الفرس ووصل جنوبا إلى أواسط أفريقيا ، واقترب من الهند ، ووصل غربا إلى المغرب العربي ، ووصل شمالا إلى القسطنطينية ... وكان للمسلمين جيوش فى هذه الأماكن كلها.  

ازدهرت دولة الخلافة فى عهد عثمان واتسعت جنباتها ، وعم الخير كافة أرجائها ، وعلا صوت الإسلام فى أغلب المناطق المسكونة في العالم يومذاك، فلقد قضى عثمان على دولة الفرس ، وطرد الروم من ولاياتهم وأدخل الإسلام إلى آسيا الصغرى ، وأفريقيا ، وحول البحر الأبيض إلى بحيرة إسلامية ، وأتم ما بدأ أبو بكر وعمر رضى الله عنهما عمله من قبله . والفضل فى كل ذلك يرجع بعد فضل الله تعالى ومعونته لحكمة عثمان وحسن إدارته وصدقه فى الحكم ، وصيانته لحقوق الدين والناس .

ومآثر عثمان قبل الخلافة عديدة ، فهو الذي اشترى بئر "رومة" ، وجعله سقيا مجانية للمسلمين ، وهو الذى وسع وبنى مسجدى مكة والمدينة من ماله الخاص ، وهو الذي جهز جيش العسرة ، وكثيرا ما بذل ، وكثيرا  ما أعطى !حكم عثمان الناس بالعدل ، وحقق المصالح العليا للأمة ، ولم يقصر فى واجب ، ولم يعتد على حق ، ولذلك أحبه الناس ، ورغبوا فى خيره وعطاياه، ومع ذلك ..يموت عثمان مقتولا بأيد مسلمة غادرة ، تنفيذا لمؤامرات قام بها أعداء الله فى الأرض ، وأعداء الدين بين الناس .

كبر فى نفسى النهاية التى انتقل بها عثمان إلى الله تعالى ، هاجت مشاعري وأنا أعيش حالة الاضطراب التي عاشها المسلمون فى نهاية خلافة عثمان .. مرت بذهني سنوات الخلافة العثمانية البالغة اثنتا عشرة بما فيها من أمجاد عظيمة ، وأعمال كبيرة أفادت المجتمع والناس ، واستمرت آثارها في الحياة الإنسانية بصورة عامة، وفى خلال البحث استنبطت عديدا من الركائز المتصلة بموضوعات الدراسة كل في موضعه .

فالحمد لله أن أعانني على كتابة سيرة عثمان وعصره ، ومكنني من الاستفادة بعلوم من سبقنى .. لقد حاولت خلال الدراسة إظهار المجتمع الإسلامى الصحيح ، وهو يتحرك بالإسلام والجهاد فى كل اتجاه ، ورأيت الحضارة التى صنعها المسلمون فى كافة النظم والمؤسسات، ورأيت الإنسان المسلم وهو يتمتع بكافة حقوقه فى إطار دولة الخلافة الراشدة .