Scalable business for startups

401 Broadway, 24th Floor New York, NY 10013.

© Copyright 2024 Crafto

مؤلفات
أ.د. أحمد أحمد غلوش

المجلد التاسع: تفسير من سورة (الإسراء) إلى سورة (الحج)

الحمد لله رب العالمين . والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...وبعد فكان من توفيق الله تعالى لى أن أعاننى على الانتهاء من المجلد الثامن الذي انتهى بتفسير سورة "النحل" . وها هو المجلد التاسع أبدأ فيه بتفسير سورة الإسراء" ، وأسأل الله سبحانه وتعالى المعونة والتوفيق حتى أستفيد بعمري فيما يفيدني عند ربي وأحب أن أوضح المنهج الذي بينته في المجلد الأول ، حيث التزمت بالمعنى الذي ذكره المفسرون القدامى والمعاصرون ، وبخاصة من نحا منهم نحو عرض الآيات ، وابراز ما فيها من حجج وبراهين وساقها إلى الغايات التي نزلت لتحقيقها وأذكر أن مرجعي هي كتب التفسير ، وعلوم القرآن التي ذكرتها في مقدمة المجلد الأول على أن أبسط ما يحتاج لبسط منى ، وأن أوجز في الآيات التي لا تحتاج لبسط وأبين أن غايتي من هذا التفسير هى ابراز ركائز القدوة من خلال التفسير لتكون منارات ساطعة توضح المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى إن من إعجاز القرآن الكريم إيراده للآيات الكونية ، وتكرارها في آيات وسور كثيرة بأساليب وطرق متعددة ، ولغايات مختلفة بلا ملل ، أو سأمة حتى نرى الموضوع في كل مرة جديدا في أسلوب عرضه ، وطريقة تناوله ، وفي ملامسته لعناصر الإنسان المختلفة ، وفي توجهه كل مرة إلى طائفة من الناس ... ودائما يظهر في كل مرة جديدا متجددا . ولعل هذا التنوع يقدم الركائز الدعوية العديدة لأن كل حالة تقدم نموذجا معينا يمكن الاستفادة به فيما يشبهه من الحوادث ، والأشخاص ... ونلاحظ في هذا التنوع تصويره لعناصر الإنسان التي يوضحها مع الحدث ، فتارة يتضح التركيز على الجانب العقلى والفكرى ، وتارة يظهر إثارة الجانب النفسى العاطفى ، ومرة يجسد الجانب العدواني في الإنسان ، وفي حالات كثيرة نرى الجحود والجمود الذى يعيش فيها الظالمون .

01
التعريف بسورة "الإسراء"

يحتاج التعريف بسورة "الإسراء" إلى بيان المسائل التالية : أولًا|تنزلات السورة: أجمع جمهور المفسرين على أن السورة مكية ، وأنها نزلت قبيل الهجرة إلى المدينة المنورة حيث كان نزولها بعد معجزة الإسراء والمعراج، وذهب بعض المفسرين إلى وجود آيات من السورة مدنية فذكر بعضهم آيتين مدنيتين هما قوله تعالى :(وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِى عَلَيْنَا غَيْرُهُ مد وَإِذَا لَّا تُخَذُوكَ خَلِيلاً ) . (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَنِي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلا قليلاً) .وزاد البعض على هاتين الآيتين أخريين هما قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا لَك إِنَّ رَبِّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرَّيْهَا الَّتِي أَرَيْتَنَكَ إلا فِتْنَةٌ لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْمَانِ وَتَخَوْفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَنَا كَبِيرًا )

ثانيًا|مسميات السورة: اتفق المفسرون من الصحابة والتابعين على تسمية السورة بسورة "الإسراء" لنزولها بعد معجزة الإسراء ، وبدئها بالحديث عن الإسراء تلك المعجزة التي جعلها الله لرسول الله ﷺ تثبيتا له بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجته أم المؤمنين خديجة رضى الله عنها  .

وتسمى السورة بمسمى سورة سبحان لأنها السورة الوحيدة التي صدرت بهذا المصدر "سبحان" وكان الصحابة رضوان الله عليهم يسمونها سورة بني إسرائيل" . ففي سنن الترمذى جاء في أبواب الدعاء عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي ﷺ لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل، وفي صحيح البخاري أن رسول الله ﷺ قال: في بنى إسرائيل والكهف ومريم إنهن من العتاق الأول ، وهن من تلادى أى من قديم السور نزولا .فذكر البخاري والترمذى ثبوت مسمى "بنى إسرائيل" للسورة ، إلا أن بعض المتأخرين يستبعد هذه التسمية، ويرى أن القول بها من الدخيل في التفسير ، لأن من فعل ذلك يريد أن يذكر بني إسرائيل عند ذكر معجزة الإسراء والمعراج ، وبذلك يبقى ذكر الإسرائيليين في العقل الإسلامي عند ذكر الأحداث الكبرى ، وبخاصة التي لها صلة بالمسجد الأقصى، ونطمئن صاحب هذا القول بأن هذه التسمية خافتة ، وليس لها أثر في العقل الإسلامي ، ولم تؤد هذه التسمية إلى ما يخاف منه ، وبخاصة أن بداية السورة تتحدث عن إفساد بنى إسرائيل في الأرض .

02
معجزة الإسراء برسول الله

يقول الله تعالى:( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَرَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ وَآيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) موضوع الآية: تبين الآية معجزة الله الكبرى لرسوله الذي أسرى خلالها به من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس تثبيتا لروحه ، وبيانا لقدره مع إخوانه الرسل

الدلالات اللغوية: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ( سبحان" مصدر سبح ، ومعناه تنزيه الله عن كل ما عداه ، وتعاليه عن كل نقيصة ، وبعده التام عن كل ما لا ينبغى مع جلاله وعظمته، وقد عبرت الآية عن الله بأنه هو الذي أسرى بعبده لبيان أهمية معجزة الإسراء للنبي ﷺ وفى مسار الدعوة في الحياة الإسلامية وللتذكير بقدرة الله تعالى وقد أجمع المفسرون على أن المراد بعبده هو محمد ﷺ، وقد أضافه الله إليه تشريفا ، وتكريما ، وتفخيما له .. ومعنى ( أسْرَى ) المشى ليلا في خفية.

03
الدعوة إلى الله بالقول والخلق الكريم

يقول الله تعالى : (وَقُل لِعِبَادِى يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَعُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوا مُّبِينًا رَّبِّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَمَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ) .

صلة الآيات بما قبلها: بعد أن بينت الآيات السابقة إبطال حجج المشركين ، وابطال نسبتهم البنات الله ، وأثبتت البعث جاءت هذه الآيات تأمر بمحاجة المشركين بالحسنى والمجادلة باللين في أناه وهدوء لأن النتيجة عند الله معلومة ، ولا إكراه في اعتناق دين الله تعالى

موضوع الآيات: تأمر الآيات رسول الله ﷺ أن يأمر المؤمنين بملازمة الحسن في الدعوة قولا وعملا) لأن الله مطلع عليهم ، عليم بما فى نفوسهم ، وعليهم أن يحذروا وساوس الشيطان التي ينشرها بين الناس ، وليعلموا أن الله عليم بكل شئ ، وهو سبحانه يفضل بعض الناس على بعض كما فضل وبيده الأمر كله بعض الأنبياء على بعض ، وهو على كل شئ قدير .

04
القرآن الكريم كتاب هداية وبناء

يقول الله تعالى :(وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَقُرْءَانَا فَرَقْتَهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَلْتَهُ تَنزِيلاً قُلْ عَامِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ تَحِرُونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبَّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَتَحِرُونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) .

صلة الآيات بما قبلها: لما بينت الآيات السابقة أن فرعون وقومه كفروا بالآيات التسع التي جاء بها موسى التي جاءت هذه الآيات لبيان أن مشركي مكة سيكفرون بالقرآن الكريم كما كفر فرعون وقومه بآيات موسى الله ، وبينت الآيات أن القرآن الكريم نزل ملتبسا بالحق ، هاديا إلى الصراط المستقيم ، وقد تأثر به العلماء السابقون فخشعوا عند سماعه ، وخروا سجدا وبكيا

موضوع الآيات: تبين الآيات أن القرآن الكريم أنزله الله ملازما للحق في كافة جوانبه ، وقد أنزله الله مفرقا ليستفاد منه على مهل في الإرشاد والتربية ، والعالمون يعرفون فضله ، لأنه كان إذا تلى عليهم يخرون ساجدين فى خشوع وخضوع لله رب العالمين .

05
التعريف بسورة "الكهف"

يحتاج التعريف بسورة "الكهف" إلى دراسة النقاط التالية :
أولًا/ تنزلات السورة: سورة "الكهف" سورة مكية عند الجمهور، وذهب غيرهم : إلى أن فيها آيات مدنية . فقال بعض هؤلاء : إن الثماني آيات الأولى منها مدنية .. وقال غيرهم : الثلاث آيات الأخيرة منها مدنية ، وقال آخرون قوله تعالى : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَنَهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فَرُطًا )  آية مدنية، إلا أن هذه الآيات التي قيل أنها نزلت بالمدينة يمكن تصور نزولها مرتين مرة بمكة ، ومرة أخرى بالمدينة والسورة تسمى باسمين هما سورة "الكهف" وسورة "أصحاب الكهف" وعدد آياتها مائة وأحد عشر آية عند البصريين ، ومائة وعشر آيات عند الكوفيين ، ومائة وست آيات عند الشاميين ، ومائة وخمس آيات عند الحجازيين، وقد نزلت السورة بعد سورة "الغاشية"

 ثانيًا| الصلة بين سورة الكهف" وسورة "الإسراء": بين سورة "الكهف" وسورة "الإسراء" صلات عدة أهمها الوجوه التالية : 

الوجه الأول : افتتاح سورة "الكهف" بـ ( الحَمدُ لِلَّهِ ) يقرنها بافتتاح سورة "الإسراء" التي بدئت بـ ( سُبْحَانَ ) والحمد والتسبيح مقترنان في ميزان الله تعالى . يقول الله تعالى : ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) .

الوجه الثاني : بدأت سورة "الكهف" بـ ( الحَمدُ لِلَّهِ ) واختتمت سورة "الإسراء" بقوله تعالى : ( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذُ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكَ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبَرَهُ تَكْبِيرًا ) . فقد أمر الله في سورة "الإسراء" بالحمد الذاتى المتعلق بما لله من صفات وخصائص ، وجاء ذكر الحمد في سورة الكهف شاملا للحمد غير الذاتي المتصل ببيان فضل الله على سائر خلقه ، وانعامه عليهم بإنزال القرآن الكريم

الوجه الثالث : لما سأل المشركون اليهود عن محمد طلبوا منهم أن يسألوه عن ثلاثة أمور تدل على نبوته ، وجاءت هذه الأسئلة واجابتها في سورتى "الإسراء" و "الكهف" فناسب أن تأتى أحدهما بعد الأخرى لتتقارب الإجابات الثلاث

الوجه الرابع:  خاطب الله اليهود في سورة "الإسراء" بقوله تعالى : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا )  . وجاءت سورة "الكهف" تفصل هذا الإجمال بذكر قصة الخضر مع موسى عليهما السلام تفصيلا لإجمال سورة "الإسراء" وتأكيدا لها وأيضا فقد قال الله في سورة "الإسراء" : ﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جَفْنَا بِكُمْ لَفِيفًا  . وفى سورة "الكهف" جاء تفضيل هذا المجئ في قوله تعالى : فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) ، وقوله سبحانه : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ لَجَمَعْتَهُمْ جَمْعًا وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ) .

الوجه الخامس : جاء في سورة "الإسراء دور القرآن الكريم فى الناس حيث يقول الله تعالى : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) وجاء تأكيد ذلك في سورة "الكهف" حيث يقول تعالى : قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَنكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا .

06
عظمة القرآن الكريم

يقول الله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا . فيما لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَيكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَابِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا )

موضوع الآيات: تبين الآيات أن الله أنزل القرآن على محمد مستقيما خاليا من أي عوج وجعله بشيرا للمؤمنين بالأجر الحسن ، ونذيرا للعصاة والمشركين الذين اتخذوا مع الله ولدا بلا علم به منهم ولا من آبائهم ، وجعلهم ولدا الله كذب وافتراء .

الدلالات اللغوية: (الْحَمْدُ لِلَّهِ ) أى استحق الله الحمد بإنزاله القرآن الكريم إنشاء وخبرا والمعنى احمدوا الله وحده فهو المستحق للحمد الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ) هذا وصف الله تعالى بما في حيز) الصلة إشعارا بعظمة الله ، وتقديرا لما فى حيز الصلة ، واستحقاقا الله أن يحمد بسببه . فقد تكرم الله بإنزال كتابه على عبده محمد كل الذي بلغ أعلى درجات العبودية ، وارتقى أعلى درجات العبادة ، واتصل بالملا الأعلى ، وتلقى الكتاب من ربه .

وجاء ذكر الكتاب معرفا بأل ، لبيان أنه الكتاب المعروف بالكمال ، البالغ حد العظمة بين سائر الكتب المنزلة، كأنه الكتاب المختص بالذكر وحده .. والمراد بالكتاب القرآن الكريم كله ، أو المنزل منه حتى إنزال هذه الآية .

وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ( أى ولم يجعل الله في القرآن الكريم عوجا ما والعوج ضد الاستقامة والانحراف . والمعنى أن الله لم يجعل في القرآن الكريم أي عوج ولو كان قليلا في لفظه ، ومعناه ، وأغراضه ، وفي هذا رد على المشتركين ، وأعداء الإسلام الذين زعموا أن القرآن الكريم مؤلف من قبل محمد ، وأنه منقول من أساطير الأولين . يقول الله تعالى : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا )  .

07
قصة أصحاب الجنتين

يقول الله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَبٍ وَحَفَفْتَها بِنَخْلِ وَجَعَلْنَا بَيْهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ وَاتَتْ أَكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نهرَا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ، وَهُوَ يحاورة، أنا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ، وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَبِن رُدِدتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا(36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ تُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوْنَكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا (39)فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِينِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَنلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرُ عُقْبًا ) .

صلة الآيات بما قبلها: لما أنت السورة بقصة أهل الكهف ، وبينت ما أعده الله للمؤمنين من نصر ورعاية وحفظ جاءت الآيات بقصة أصحاب الجنتين لبيان العقوبة الدنيوية التي ينزلها الله بالعصاة والظالمين

08
التعريف بسورة "مريم"

يحتاج التعريف بسورة "مريم" إلى بيان القضايا التالية :
:أولًا| تنزلات السورة: سورة "مريم" سورة مكية ما عدا قوله تعالى : ( أُوْلَتِبِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ وَآيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا (وبكيا ) فقد ذكر مقاتل إن هذه الآية مدنية، وذكر السيوطى أن قوله تعالى : ( قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَى هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ وَآيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مقْضِيًّا مدنية ... إلا أن ارتباط هاتين الآيتين بما قبلهما ، وبما بعدهما يبين أنهما مكيتان ، وعلى هذا نذهب إلى نزول هاتين الآيتين مرتين مرة بمكة ، ومرة ثانية بالمدينة .. وللسورة اسمان أولهما مسمى "مريم" فقد ثبت عن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده قال : أتيت رسول الله ﷺ فقلت : يا رسول الله ولدت لي الليلة جارية ... فقال له ﷺ : ونزلت علي الليلة سورة "مريم" فسمها بها  فسميت ابنتي مريم ، وكنيت بها

09
عبودية عيسى لله تعالى

يقول الله تعالى : (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَا سُبْحَتَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35). وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمُ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(38 ) .

صلة الآيات بما قبلها: لما بينت الآيات السابقة طرفا من قصة "مريم" عليها السلام وكيفية حملها بعيسى وولادته جاءت هذه الآيات لبيان اختلاف الناس في عيسى بسبب ولادته من غير أب

موضوع الآيات: تبين الآيات أن عيسى رسول الله ، وقد اختلف الناس فيه ، ونسوا أن الله لا يتخذ ولدا فهو إله واحد ، وسيحاسب الكافرين يوم القيامة ، ويفصل بين عباده ، ويجازيهم بالجنة أو بالنار .

10
التعريف بسورة "طه"

التعريف بسورة طه:

أولًا |تنزلات السورة": سورة "طه" سورة مكية بالإجماع ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا السيوطي في الاتقان فذكر أن آيتين نزلتا بالمدينة هما قوله : ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَايِ الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)وَلَا تَمُدِّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131 )

ويبدو أن هاتين الآيتين نزلتا مع السورة في مكة ، وقرئنا في المدينة فمن سمعهما أول مرة ظنهما مدنيتين فقال بذلك .. نزلت سورة "طه" بعد سورة "مريم وعدد آياتها مائة وأربعون آية عند الشاميين ، ومائة وخمس وثلاثون عند الكوفيين ، ومائة وأربع وثلاثون عن الحجازيين ، ومائة واثنان وثلاثون عند البصريين وقد نزلت السورة قبل إسلام عمر الله لما رواه ابن إسحاق الله في سيرته قال : خرج عمر الله متقلدا بسيف . فقيل له : أن ختنك وأختك قد صبوا .. فأتاهما عمر وعندهما خباب بن الأرت يقربهما سورة (طاها) ، فقال :أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه ؟ فقالت له أخته : إنك رجس ، ولا يمسه إلا المطهرون ، فقم فاغتسل أو توضأ فقام عمر ، وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ "طه" . فلما قرأ صدرا منها قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه إلى آخر القصة حيث ذهب إلى رسول الله ﷺ في دار الأرقم وأعلن إسلامه، وكان إسلام عمر في سنة خمس من البعثة قبيل الهجرة الأولى إلى الحبشة فتكون هذه السورة قد نزلت في سنة خمس ، أو أواخر سنة أربع من البعثة.

ثانيًا| أٍسماء السورة: للسورة ثلاثة أسماء هي:

(۱) ( طه ) وهى حروف مقطعة مكونة من حرفين

(۲) وتسمى بسورة "الكليم" لأن أغلب آياتها تقدم قصة الكليم موسى .

(۳) وتسمى السورة بسورة "موسى" لحديثها المطول عنه.

11
قصة موسى

تناولت سورة "طه" قصة "موسى" في أكثر من تسعين آية بدعم من الآية رقم (۹) وهو قوله تعالى : ( وَهَلْ أَتَنكَ حَدِيثُ مُوسَى ) ... وانتهاء بالآية رقم (۹۸) وهو قوله تعالى : ( إِنَّمَا إِلَيْهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا )، وقد جاءت القصة بعد آيات ثمان جاءت في أول السورة تتحدث عن نزول القرآن الكريم على رسول الله ﷺ ليقرأه فى يسر ، ويدعو به الناس في أناة ، بعيدا عن العنت والمشقة ، وقد جعله الله دستور الدعوة ، ومنهج الله تعالى للناس ، وتبين بعض صفات الله وأسمائه التي يجب الإيمان بها، وقد جاءت قصة موسى الله تسلية لرسول الله ﷺ ، وبيانا لضرورة الصبر في الدعوة إلى الله تعالى ، ولتوضيح أن النصر في النهاية هو للمؤمنين الصادقين، وقد جاءت قصة موسى مطولة في القرآن الكريم ، ولم تتحدث عن طفولته ونشأته ، وتربيته فى بيت فرعون، وفراره إلى الشام وزواجه من ابنه شعيب كما هو شأن القصة في سورة القصص ، وانما بدأت القصة في سورة طه من تكليفه بالرسالة وهو عائد بزوجته إلى مصر ، وأشارت بإيجاز إلى حياته قبل الرسالة . ونظرا لطول القصة ، فإني سأقسمها إلى عدد من المقاطع حيث يمثل كل مقطع جانبا من القصة ، وسوف أؤخر الركائز المستفادة إلى نهاية القصة .

12
التعريف بسورة "الأنبياء"

يحتاج التعريف بسورة الأنبياء إلى المباحث التالية: 

أولًا| تنزلات السورة:  سورة "الأنبياء" سورة مكية بإجماع المفسرين ، ولم يشذ عن ذلك إلا الحافظ السيوطى في الاتقان فذكر أن قوله تعالى : ( أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا تَأْتِي الْأَرْضَ تَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَلِبُونَ )آية مدنية إلا أن القول بمكية كل آيات السورة هو الأولى لأن معنى الآية متسق مع ما حولها من آيات ، وجواز نزول الآية مرة في مكة ، ومرة ثانية في المدينة أمر مقرر، وقد سماها الصحابة بسورة الأنبياء" ولم يذكروا لها اسما آخر . وقد نزلت سورة "الأنبياء" بعد سورة حم السجدة وكان نزولها قبيل الهجرة . وعدد آياتها مائة واثنتا عشرة آية عند الكوفيين ، ومائة وأحد عشر آية عند غيرهم . 

"ثانيًا|صلة سورة "الأنبياء" بسورة "طه: تتصل سورة الأنبياء" بسورة "طه" بعدة أوجه ... منها : الوجه الأول : تقدم سورة "الأنبياء" تفصيلات لقصص رسل لم يرد لهم ذكر في سورة "طه" ، وبذلك تكمل سورة "الأنبياء" ما جاء في قصص سورة "طه"

الوجه الثاني : انه لما جاءت آخر سورة "طه" تؤكد التربص وانتظار اليوم الآخر ، وذلك في قوله تعالى : ﴿ قُلْ كُلِّ مُتَرَبِّصُ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) قال المشركون : إن محمدا يهددنا بجزاء الأعمال في الآخرة ، وليس ذلك بصحيح جاءت أول آية في سورة "الأنبياء" ترد عليهم ، وتؤكد قرب مجئ يوم القيامة .

الوجه الثالث : تحدثت السورة السالفة عن أن الناس قد شغلتهم زهرة الدنيا التي جعلها الله لهم فتنة ، وأن الله نهى رسوله أن يتطلع إليها ، وأمره بالصلاة والصبر عليها ، وأن العاقبة للمتقين . جاءت هذه السورة بمثل ما ختمت به السالفة ، فذكر فيها أن الناس غافلون عن الساعة والحساب ، وأنهم إذا سمعوا القرآن استمعوه وهم لاعبون ، وقلوبهم لاهية عنه

13
الرسل بشر من الناس

يقول الله تعالى :(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِيَ إِلَيْهِمْ فَسْتَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْتَهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْتَهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ* لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَبًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) . 

صلة الآيات بما قبلها: لما بينت الآيات السابقة إنكار مشركي مكة أن يكون الرسول بشرا جاءت هذه الآيات لبيان أن الله اختار رسله من البشر ، ومحمد ﷺ واحد منهم .

معنى الآيات: تبين الآيات أن الله أرسل رسله قبل محمد ، واختارهم من البشر يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ... وصدق الله وعده لهم ونصرهم ، وأهلك أعداءهم ، وأنزل عليهم وحيه

الدلالات اللغوية: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ) أي وما أرسلنا قبلك يا محمد رسولا إلى أمة من الأمم التي قد خلت من قبلك إلا رجلا منهم نوحي إليه ما نريد من أمر ونهى

14
مع قصص سورة "الأنبياء"

سميت السورة بـ "الأنبياء" لكثرة ورود ذكر الأنبياء فيها . فقد ذكر الله فيها سبعة عشر نبيا ولم يرد هذا العدد في سورة أخرى إلا في سورة "الأنعام" فقد ذكرت ثمانية عشر نبيا . جاء ذكرهم عدا في قوله تعالى : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا، وقصص سورة "الأنبياء" متمم لموضوع السورة وهو إثبات العقيدة في أساليب بيانية ، متعددة .

وقصص السورة يأتي قصيرا مكتفيا بطرف يسير من القصة ما عدا قصة إبراهيم  مع قومه الذين يعبدون الأصنام ، وأطالت في حواره معهم وبينت كيده لأصنامهم ، ووضحت طريقة إبراهيم فى إقامة الحجة ... إلى أن أنقذه الله من النار ، وجعلها له بردا وسلاما، وقد أوردت السورة هذا القصص فى إطار موضوع السورة فهي لا تقصد عرض القصة كاملة ، ولا تهدف إلى غير الهدف الرئيسي لهذا القصص ، ومع طول قصة إبراهيم نجدها لا تغادر الهدف العام للقصص، ويلاحظ أن السورة ركزت في قصصها على نجاة الرسل من ظلم وظلمات المكذبين ، وهي تبين وتؤكد هذه الغاية في كل قصة طالت أو قصرت. وسوف أورد عقب القصص كلها الركائز المستفادة منها

15
التعريف بسورة "الحج"

أولًا| تنزلات السورة:

تعرف السورة باسم سورة الحج" وليس لها اسم غير ذلك يدل على هذه التسمية ما يلى : ـ عن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله أفضلت سورة "الحج" على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال : نعم . ـ وعن عمرو بن العاص لله أن رسول الله ﷺ أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن الكريم منها ثلاث في المفصل ، وفى سورة "الحج" سجدتان . وقد فرض الحج بآيات سورتي "البقرة" و "آل عمران" ، ولم تتعرض سورة "الحج" لهذه الفريضة الإسلامية، وسميت السورة باسم "الحج" لأنها تبين دعوة إبراهيم الناس للحج إلى بيت الله في مكة ، وبيان ما شرع للناس في الحج من نسك ، ومنافع ، وفضائل، وعدد آياتها ثمان وتسعون آية عند الكوفيين ، وسبع وتسعون آية عند المكيين ، وخمس وتسعون آية عند البصريين ، وأربع وتسعون آية عند الشاميين .

16
الدعوة لتقوى الله تعالى والعمل للآخرة

يقول الله تعالى : (يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَرَى وَمَا هُم بِسُكَتَرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ* ) .

موضوع الآية: ينادى الله تعالى الناس جميعا ليؤمنوا به ، ويتقوه ، ويخافوا هول يوم القيامة ، وعذاب الله تعالىالدلالات اللغوية: (يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) ينادى الله الناس ليتقوا الله تعالى ، لما في النداء من تأثير نفسي، وتحريك عملى ، ومخاطبة للعواطف والعقول. والخطاب للناس جميعا رجالا ونساء ، شيوخا وشبابا ، مؤمنين وغير مؤمنين ، وفي هذا النداء يأمر الله الناس بالتقوى التي تقوم على الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والاستعداد ليوم الرحيل ... إنه خوف يقوم على الحب ، ويؤدى إلى الطاعة ، ويحقق التواصل مع الله رب العالمين، وأول فريق من الناس أتاهم هذا الخطاب هم المشركون من أهل مكة لنزوله فيهم ، ويضم معهم سائر المشركين في المدينة وغيرها .

17
بناء إبراهيم للبيت ونداؤه بالحج

يقول الله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لا تُشْرِكَ فِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ للطَّائِفِينَ وَالْقَابِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِن فِي النَّاسِ بِالْحَقِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَقَتَهُمْ وَلْيُوفُوا مد نُذُورَهُمْ وَلْيَطُوفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) .

صلة الآيات بما قبلها: لما بينت الآية السابقة مصير الكافرين الذين يصدون الناس عن دين الله وعن البيت الحرام جاءت هذه الآيات لبيان أن إبراهيم الله هو الذي بني البيت ، ودعا إلى الحج ، ونادى بأداء مناسكه ، وما كان لهم أن يصدوا الناس عنه ، وكان عليهم أن يهيئوا البيت الحرام لمن جاءه حاجا أو معتمرا .

موضوع الآيات: تبين الآيات أن إبراهيم الله بنى البيت ، ونادي بتوحيد الله تعالى ، ودعا الناس للحج ، وأداء المناسك ، والمجئ للبيت أفرادا ووحدانا لعبادة الله تعالى ، والانتفاع بالتعارف ، والتجارة .

18
الخاتمة

الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، والشكر له سبحانه وتعالى أن أعانني على إخراج هذا القدر من التفسير ، وأمل من رحمته أن يمكنني من الانتهاء من تفسير القرآن الكريم كله لأقدم من خلاله ركائز القدوة للدعاة من خلال تفسير الدعوة ... ولا أنسى في مجال الشكر أن أرجو من العلماء والدعاة ما يلى:

(1) أن ينصحوا لي بما يرونه صالحا لديني ودنياني ، فأنا احتاج لنصحهم وتوجيهاتهم في حياتي العلمية والعملية ، وأعدهم يتتبع أي توجيه صادق يقربني من الصدق والإخلاص الذي اتمناه ليومى وغدى ، ولا خير في إن لم أسمع لهم وأستفد منهم ، ولا خير فيهم إن علموا أمرا يصلحني ، ولم يقولوه لي.

(۲) أن يرشدني العلماء عن أى قصور في مؤلفاتي ، فالمرء قليل بنفسه كبير بإخوانه ، وأقر هنا بمسيس الحاجة إلى إرشاد إخواني العلماء ، فأنا بذاتي ضعيف محدود ، وبأراء غيرى يزداد علمى ، ويقوى ضعفي ويشتك ازری

(۳) أن يكثروا دراسات الدعوة والدعاة ، ويخرجوا لها المؤلفات التي تقف شامخة مع غيرها من العلوم الكثيرة المتخصصة وحتى لا يقال  أين علوم الدعوة ؟ أين الجهد العلمي للدعاة ؟ وما سبب غيابهم عن المكتبة العلمية الإسلامية ؟ .. لقد ظهرت معارف الدعوة منذ ظهور الإسلام ، وحمل الدعاة الإسلام إلى العالم كله وهم يبلغون الدين بمنهج الله تعالى ، قدوتهم الرسل ، وغايتهم الوصول إلى الله تعالى، والسعادة في الآخرة بالنظر إلى وجه الله الكريم إلا أن عصر التخصص العلمي يدفعنا إلى السعى لإبراز علوم الدعوة في منهجية متخصصة وموضوعية علمية .

(4) أن يقدموا للمسلمين ، والطلاب العلم الذي يأخذهم إلى صراط الله المستقيم بأسلوب سهل ، ومعان بينة ظاهرة ، ودائما يفيد الابتكار والتكرار ، وينفع الصالحين من الناس

إن هذه الأمال هي أحلامي ، وهى أمنياتي من كل ما أكتبه ، وأشعر بتوفيق الله عند انتهاء أى قدر في هذا التفسير ، واطمع في المزيد ... واحلم بانتهاء هذا التفسير ، واذا قضى الله بعدم تمكنى من ذلك فدعوتي إلى الله أن يلهم من عباده من يتمه ، ويتقبل سبحانه ما قمت به .. إني لم أقصد من هذا التفسير إلا خدمة ديني ، وارضاء ربي ،جهد طاقتي ، وقدر علمى ، فإن أصبت فهو توفيق الله ، وإن أخطأت فهو من بشريتي ، واستغفر الله تعالى وعلى الله قصد السبيل ، وهو ربي ، عليه توكلت واليه أنيب ، وهو حسبي ونعم الوكيل

الى الاعلى