Scalable business for startups

401 Broadway, 24th Floor New York, NY 10013.

© Copyright 2024 Crafto

مؤلفات
أ.د. أحمد أحمد غلوش

نظام الإسلام في التعامل مع القرآن الكريم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد .. فقد هداني الله ووفقني إلى سلوك طريق العلماء، والتشبه بهم في خدمة الإسلام، والدعوة إليه بالكلمة الصادقة، والبحوث الهادفة، وكان آخرها موسوعة النظم الإسلامية التي بدأت بالكتاب الأول الذي جعلته مدخلا السائر النظم ، فقد بينت فيه أن النظم هي الإسلام ، سواء كانت نظما كلية أو فرعية، لأنه من الممكن وضع أي مسألة حياتية في إطار نظام يجمع جزئياتها، ويضعها في إطار واحد منسق، كما فعل فقهاء المذاهب، وعلماء العقيدة والأخلاق، ووضحت في هذا المدخل حقيقة أن مصادر الإسلام كما فصلها العلماء والفقهاء والدعاة هي مصادر النظم، وخصائصه هي خصائصها، وواصلت البحث، فأخرجت : نظام الإسلام في صناعة الإنسان، ونظام الإسلام في تكريم المرأة، ونظام الإسلام في الدعوة إلى الله تعالى .. ووجدت نفسي أمام القرآن الكريم المصدر الرئيسي للإسلام، فهو الأساس الذي تأخذ منه النظم أصولها، ومشروعيتتها، وتحدد حقيقتها ومنهجيتها.

وهنا رأيت ضرورة تحديد مكانة القرآن الكريم في حياة المسلمين، والواجب عليهم معه أفرادا وجماعات، وهالني بعد أغلب المسلمين عن حق القرآن الكريم، فلقد أهملوه في دساتيرهم وقوانينهم، وبعدوا عن واجباتهم معه في سلوكهم وأعمالهم ولم يتخذوه منهج حياتهم ونشاطهم، .... فأحببت أن أبين النظام المشروع الذي وضعه الله تعالى في كيفية تعامل المسلم مع القرآن الكريم فقد آمن بالله ربا، وبمحمد رسولا، ورضى بالإسلام دينا، وصدق بالوحي المنزل على النبي -والتزم به أمام نفسه، وأمام الله تعالى، وتعهد أن يتخذ القرآن الكريم منهجا لحياته، وطريقاً يسلكه في عقله، وقوله، ونشاطه كله.

وتبين لي أن بعد المسلمين عن أحكام القرآن الكريم ، وإبعادها عن الواقع التطبيقي الحياتي هجران للقرآن الكريم ذاته، يؤدي إلى نقص الإيمان، وإهمال الشريعة، وفساد الأخلاق  وكنت في البداية تواقا لكتابة هذا البحث عن القرآن الكريم، فكتبت عنوانه ثم توقفت أكثر من شهرين لمرض أصاب عيناي أجريت لهما عمليتين طبيتين، فشفيت بأمر الله تعالى، وكنت خلال مدة التوقف أجول بعقلي في موضوع البحث، وأتصور ضالتي أمامه، وكدت أتركه إلى غيره ، ولجأت إلى الله تعالى أن يهديني سواء السبيل، فالأمر أمره، والقدر قدره ، ولا قوة لمخلوق إلا بحول الله تعالى وقوته .

01
الباب الأول: التعريف بالقرآن الكريم وبيان تميزه عن الحديث النبوي والحديث القدسي

أحاط اللّٰه تعالى الإنسان برحمته منذ وجوده، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فركبه في صورة جميلة، ووضعه في هيئة خاصة تلائم ما أعده الله تعالى له، ويسر تكاثره بأن بث من آدم وحواء - عليهما السلام - رجالا كثيرا ونساء، ونظم التزواج الذي يتم بين الذكر والأنثى بنظم شرعها للأمم كلها مراعيا واقع كل أمة .
وانعم الله تعالى على الإنسان بأن أمده بأسباب الحياة، ورزقه البدن ليحيا، وركب له المفاصل ليعمل ويسعى، وأعطاه العقل ليفهم، ويدرك، وزرع فيه العواطف ليكون إنسانا ، يقول الله تعالى : ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَرَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
ورحم اللّٰه عز وجل الإنسان فهداه لوظيفته التي أعده لها، وجعل الوجود خادما له، فأجرى له الريح رخاء حيث يكون، وجعل الأرض معاشه، وسخر المياه في النهر والبحر ليأكل حيتانها، ويستخرج كنوزها ، ويركبها بأفلاك يصنعها، وذلل كل المخلوقات لتطيعه حيث أمر، وتخضع له كما يشاء مع قوتها، وضخامتها، ووفقه ليدرك بعقله، ويعمل ببدنه، ويتعامل مع غيره بخلقه وذوقه، ( وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ) .

02
الفصل الأول: تعريف القرآن الكريم

كان من رحمة الله التامة أن يسر القرآن للذكر، والفهم ، وقدر حفظه في العقول والصدور، وأبقاه كما نزل من عنده مع الناس إلى يوم القيامة بلفظه ومعناه، ويسر قراءته، وفهمه ، واستنباط الأحكام منه ، فحفظه رسول الله ، وأقرأه أصحابه فحفظوه ورتلوه، وبينه لهم بسنته وأحكامه فعملوا بها، ويحثوا عن حكمه فسعدوا بمحاسنها ومراميها .

استقبل المسلمون القرآن الكريم بكل عناية واهتمام ، فهو كلام الله لهم، وأحكامه سبحانه وتعالى فيهم، والتقت فطرتهم مع القرآن الكريم فحفظوه وحافظوا على تعاليمه، وعبدو الله به ، ونقلوه إلى من بعدهم كما تلقوه ممن كان قبلهم، وبذلك تواتر القرآن الكريم في انتقاله من جيل إلى جيل، حيث حفظه في كل جيل الألوف بل عشرات الألوف.

وعاش المسلمون مع القرآن الكريم مؤمنين به، فهو كلام الله تعالى وخير لهم أن يملأوا به صدورهم، فهو الإسلام الذي دعاهم إليه رسول الله ﷺ وخير لهم أن يأخذوا دينهم من مصدره، وخير لهم أن يداوموا على مدراسته وحفظه، والمحافظة عليه، فهم به يعبدون الله تعالى، ويعرفون الدين، ويقوون الإيمان، ويبعدون أراجيف الشيطان عن قلوبهم، وحياتهم، ويعيشون روحالعبودية مع كلام الله المعبود

لقد صنع القرآن الكريم المسلمين في العصور الأولى، فكانوا يقرأونه في بيوتهم، ويتبعونه في انشطتهم، ويبرزون خلقه وأحكامه في مناسكهم وعلاقاتهم، إن واجب المسلم في العصر الحديث مع القرآن الكريم هو الواجب الذي قام به المسلمون في العصر الأول، وهم الأحوج إليه عسى أن تعود لهم قوة اليقين، وعظمة التدين، وروح العزة التي قدرها الله تعالى لرسوله وللمؤمنين .

03
الفصل الثاني: القرآن الكريم في حياة المسلمين

دخل المسلمون الأول في الإسلام صادقين بعدما رأوا فيه ما يقنع العقل، ويرضي الروح، فلقد نشأ محمد له بينهم، وعرفوا خلقه وسلوكه، وسموه الصادق الأمين، فلما بلغ الأربعين دعاهم إلى الإيمان بالإسلام الذي أوحى الله تعالى إليه به، وجعله خاتم الأديان ، وجعله للناس جميعا إلى يوم القيامة.

أخذ العرب يبحثون عن صدق محمد من خلال الآيات التي جعلها الله تعالى له، وكان أعظمها وأقواها القرآن الكريم، فلقد تحداهم به، وأثبت عجزهم أمامه، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، وأخذ الذين أمنوا في طاعة رسول الله ، والتمسك بتعاليم القرآن الكريم، والمحافظة عليه بالتلاوة المجودة والحفظ الغيبي، والتدبر في المعاني، والتطبيق التام لمنهجه وتعاليمه تيقن أصحاب رسول الله ومن تبعهم من أن القرآن الكريم كلام الله تعالى أنزله للناس ليخرجهم من عماية الشرك إلى نور التوحيد، وينقذهم من حياة الفقر والتبعية إلى حياة الأمن والأمان والسيادة والعلا ... فبذلوا جهدهم في الطاعة ، واستقاموا على منهج القرآن الكريم.

آمن الصحابة بأنهم يكلمون الله تعالى بكلامه، وأن الله تعالى يخاطبهم بقرآنه، فعاشوا مع القرآن الكريم بقلوبهم وأرواحهم، ... وتبعهم السلف الصالحفي هذا المسلك المستقيم، ومع حركة الزمان، ومسار التاريخ انقلب حال المسلمين، وبعدوا كثيرا عن القرآن الكريم.

04
الباب الثاني: خصائص القرآن الكريم

يتميز كل شيء عن غيره بخصائص ذاتية تميزه عن غيره من الأشياء. والقرآن الكريم أنزله الله تعالى على رسوله محمد وخصه بمزايا تحدد حقيقته، وتجلي كلماته عن غيرها، وجرت سنة الله تعالى مع الرسل بأن أيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم في دعوى النبوة، وحتى يتضح عجز أقوام الرسل أمام المعجزة جعلها الله تعالى من جنس ما تفوقوا فيه ليدركوا أنها خارقة لعاداتهم، وعالية عن قدراتهم، ويعلموا أنها شاهد صدق الرسول، ولسان حالها يقول عن الله تعالى : صدق عبدي فيما يبلغ عني.

ومعجزات الرسل حسية ومعنوية ، إلا أن الله تعالى قدر المعجزات الرسل السابقين أن تنتهي بعد مدة من الزمان نظرا لكون الرسالات السابقة خالية من العموم والدوام إلى يوم القيامة، فلما نزل الإسلام للناس جميعا ومستمرا إلى يوم القيامة، جعل الله القرآن الكريم معجزة معنوية لمحمد ، وقدر لها الحفظ والثبوت لتستمر مع الناس على الزمن كله، حافظة للإسلام، تفصل تعاليمه، وتزين حقيقته في القلوب والعقول، وتدعو إليه كافة الناس

إن القرآن الكريم دستور الإسلام، وأساس الأحكام، وهو المصدر المحكم الأركان العقيدة، وقضايا الشريعة، ومكارم الأخلاق، وقد خصه الله تعالى بعديد من المزايا التي تميزه عن أي كلام الله تعالى مع الرسل السابقين، أو مع ملائكته الكرام، وعن الحديث القدسي والحديث النبوي، وقد عرف الله عباده بكتابه العزيز، فأسرع إلى الإيمان به، والدخول في الإسلام العقلاء الأصفياء، ومن جادل فيه وزعم أنه من عند محمد ﷺ فقد تحداه رسول الله ﷺ كما أمره الله تعالى .
ورفع القرآن الكريم شأن العرب حين نزل بلسانهم، وأظهر لهم تميزه عن فصحائهم ، وبلغائهم، فأقروا بعجزهم ، واعترفوا بصدق محمد وإن تأخروا في ذلك.

 

05
الفصل الأول: الخاصية الأولى|القرآن كلام الله بلفظه ومعناه

حينما تؤسس الجماعات، وتنشأ الدول تحتاج إلى ميثاق ينظم فيها السلطات، ويحدد الحقوق والواجبات التي تبدأ بصورة تلقائية، مثل وظيفة الوالد في الأسرة، ومنزلة الشيخ في القبيلة، ودور الملأ وسط الناس، وقد تطورت الجماعات تطورا كبيرا، فنظموا حياتهم، ورتبوا نشاطهم ووضعوا أنظمة يعيشون بها، ودونوا مواثيقهم وحفظوها لتكون معلما تسير عليه الجماعة، ويلتزم بها الأفراد .

ورحم الله تعالى الناس فأرسل لكل جماعة رسولا يرشدهم للدين الحق ، ويدعوهم إلى منهج الله القويم بالوحي المنزل إليهم في الكتاب الذي أنزله الله تعالى مناسبا للأمة التي بعث لها هذا الرسول، ولما اكتمل النضج العقلي للإنسانية أرسل الله تعالى محمدا للناس أجمعين، وجعل رسالته خاتمة الرسالات السابقة ودائمة بعمومها إلى يوم القيامة، وأنزل الله تعالى القرآن الكريم بلفظه ومعناه ليحافظ للمسلمين على دينهم، ويكون صوت الله في حياتهم ، ودستورا للحياة كلها، وقد حاول كفار مكة صد الناس عن الإسلام، فادعوا أن محمدا ألف القرآن الكريم من عند نفسه، وليس هو كلام الله تعالى.

06
الفصل الثاني: الخاصية الثانية| القرآن الكريم كتاب محفوظ

حفظ الله تعالى كلامه المنزل على محمد ، وصانه بألفاظه في صدور الرجال، وبكلماته المكتوبة في مصحف مدون، وبمعانيه الثابتة في العقول والأفهام مرتبا في الآيات والسور بأمره، وقدر الله تعالى لحفظ القرآن الكريم عوامل عديدة حققت مراده ، فبقى القرآن الكريم مع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بلفظه ومعناه وقرآنه كما نزل من عنده

ولم يترك الله تعالى القرآن الكريم يضيع أو يحرف كما حرفت الكتب السابقة لسبب جوهري وهو أن الإسلام هو دين العالم كله ، وهو عام للناس أجمعين، والقرآن الكريم هو دستوره ومصدره، ومن الضروري أن يستمر القرآن الكريم على ما نزل عليه من عند الله تعالى حتى يبقى الإسلام بكماله وتمامه إلى آخر الدنيا.

لقد تعرض القرآن الكريم لهجمات عديدة تحطمت أمام قدرة الله تعالى التي برزت في قوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )، وحرص المسلمون على حفظ القرآن الكريم فكثر الحفاظ في كل موطن، قدر الله تعالى لكتابه العزيز أن يبقى في الأرض بين الناس كما نزل من عنده، وهيا له العوامل التي تحفظه ، وتحافظ عليه .

07
الفصل الثالث: الخاصية الثالثة| القرآن الكريم ثابت باللسان العربي

أنزل الله تعالى كتابه العزيز على رسوله محمد ليبلغه للناس داعيا إلى دين الله تعالى، ليبدأ بدعوة قومه العرب، وينطلق بهم إلى العالم كله ، ولذا كان اللسان العربي هو اللسان الذي نزل به القرآن الكريم ليتحقق التوافق اللغوي بين الأقوام الذين سينزل فيهم أول مرة .. يقول الله تعالى :- (إِنَّا أَنزَلْتَهُ قُرْءَانَا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (نزل بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِي مبين ) (كِتَبٌ فَصَلَتْ آياتُهُ قُرْءَانَا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )

والآيات واضحة الدلالة في أن اؤلقرآن الكريم نزل من عند الله تعالى بلفظه ومعناه بلغة العرب، وهي الأمة التي نزل فيها القرآن الكريم أولا ليعقله الناس، ويؤمنوا به ويحملوه لغيرهم، ويعرفوهم بأحكامه وحكمه، وسيبقى القرآن الكريم مقروءا باللغة التي نزل بها، وينقل لغير العرب بترجمة معانيه ببهائها وتساميها إلى لسان من سيصل إليهم، إن الإسلام دين العالم كله، ختم الله تعالى به الأديان السابقة، وقضى بدوامه إلى يوم القيامة، وهذا الحال يدفع إلى تساؤلات تحتاج إلى إجابات واضحة تتعلق بسبب اختيار اللغة العربية لينزل القرآن الكريم بلسانها، واختيار العرب لينزل القرآن الكريم عليهم بلغتهم في موطنهم الذي سكنوا فيه في الجزيرة العربية.

إن اللغة العربية هي أوسع اللغات بيانا، وأكثرها كلمات، ولها من المزايا ما تظهر به خصائص القرآن الكريم، كما أن العرب قبل الإسلام كانوا على أصالتهم القومية، كما تميزوا بصفات راقية ، وتوسطت بلادهم العالم كله ، فلما أسلموا وصلوا بالإسلام إلى الناس أجمعين، ومع إيماني المطلق بأن الله أعلم حيث يجعل رسالته في قوم معينين، وبلغة يختارها لكلامه، ... سأحاول - بإذن الله تعالى - بيان الحكمة في هذا الاختيار استنباطا من وقائع التاريخ، وأحداث القدر التي ظهرت للناس على قدر طاقتي البشرية .

08
الفصل الرابع: الخاصية الرابعة| القرآن الكريم كتاب معجز

خلق الله الناس، وأسبغ عليهم نعمة ظاهرة وباطنة، ومن أجل نعم الله تعالى على الإنسان أن فضله على جميع خلقه، فركبه من بدن ووقاية، ومن عقل يفهم، ومن روح تسموا ومكنه من الارتباط المادي والعقلي والروحي بالمكونات الأخرى، فظهر إنسانيته، ولمت معارفه، وتعلم طريقة الجدل والحوار، يقول الله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَرَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

إن من نعم الله تعالى على الإنسان أن علمه الأمور البدهية التي في الواجهة إلى غاية تلقائية، فعلم أن الجوع يتطلب الغذاء، وأن الأم مصدر الرحمة، وأن الأب وسيلة النفقة، والعلاج عن طريق التخلص من المرض، ومع تطور عقل الطفل يعلم أن أباه أكبر منه، وأن الواحد نصف الاثنين، وأن الحاجة إلى الطلب، وأن الحق فوق القوة.

ويبدأ الطفل في الإحساس بالجمال الحسي، ثم بالخلق الكريم، ويفرق بين الأمور، فمن يلاعبه ليس كمن يصيبه ويرتقي إلى التفرقة بين الحب والكراهية، وبين الخير والشر، وبين الصواب والخطأ، ويتخير من الألعاب ما بين أطفاله في مجتمعه...... وتتكون في باطنه بصيرة مدركة تلهم العقل بالمعنى وتشير إلى ما وراء الحس من مفاهيم عقلية، ونتائج دقيقة، ويتفاوت  الناس في التمتع بهذه التصورات، إلا أنهم جميعا لا يتخطون الممكن، ويقفون بخيالهم عند الحدود التي يعيشون فيها، ويقرون بالعجز التام أمام آيات الله الكبرى التي يرونها، ويسمعون عنها، كحركة الشمس والقمر.

09
الباب الثالث: حق القرآن الكريم على المسلمين

لم ينزل القرآن الكريم ليهجره الناس، ويجعلوه فيهم كسائر كلمات الأدباء، أو يعيشوا معه بلا تأثر به أو التزام لتعاليمه ، أو ليصنعوا منه تمائم وأحجبة، أو يعلقوه في مجالسهم وعلى سياراتهم، وإنما أنزله له توضيحا للإسلام، وإرشادا للضالين، وهداية للراشدين، ومنهاجا يسلكه المسلمون، ويتمسك بتعاليمه المؤمنون الصادقون .

وقد ترك رسول الله الله القرآن الكريم أمانة في عنق المسلمين جميعا، يصدقون بكل ما جاء فيه ، ويتمسكون بسائر تعاليمه، ويجعلون نظمه المنهج الذي يستقيمون عليه، فهو وحي الله فيهم، وكلام الله الخالد بينهم، وهو الصراط المستقيم، يقول الله تعالى عنه : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ )

وعن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله ﷺ : " إني قد تركت فيكم
شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتي ) 
وعن الحارث الله ، أنه قال : ( مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على عليه.
فقلت : يا أمير المؤمنين ، ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث
قال علي : وقد فعلوها ؟
"قلت : نعم. قال : أما إني قد سمعت رسول الله ﷺ يقول : " ألا إنها ستكون فتنة 

فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله ؟
قال : " كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْوَانَا عَجَبًا )، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم"

10
الفصل الأول: الإيمان بالقرآن الكريم

جاء الإسلام دين الله تعالى لينظم للناس أعمالهم، ويحدد صلتهم بالله ﷺ ، ويوضح سلوكهم مع الناس في إطار الأحكام الدينية الموجودة في القرآن الكريم ، والمبينة في السنة النبوية، وعرف الإسلام الناس بالأحكام الشرعية الشاملة لسائر أعمال المكلفين ، وبرزت منها الأحكام العقدية، والفقهية، والأخلاقية التي جاءت مفصلة في القرآن الكريم ، حيث علم الناس الفروض التي يجب الالتزام بها على وجه الضرورة ، والمستحب الذي يقوم به المسلم عند الحاجة ، والمباح الذي يؤديه المسلم على وجه الاستحسان .

لقد فصل القرآن الكريم أركان العقيدة، وأحكام الشريعة ، وحفظه الله تعالى في الناس ، وعرفهم بالمنهج الذي يتعاملون به معه ليستمروا مستقيمين على دين الله تعالى ، ويعيشوا في كنف العظمة التي وضعهم القرآن الكريم فيها، وقد يسر الله تعالى الأمر للناس ، فجعل الإيمان بالقرآن الكريم ركنا من أركان الإسلام ، وأوجب على المسلمين التصديق به في قلوبهم ، والنطق به بألسنتهم، والعمل بأحكامه في أعمالهم ونظمهم، وكما هو معلوم فإن الإيمان تصديق بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح، ولذلك وجب الإيمان بكل ما جاء في القرآن الكريم .

11
الفصل الثاني: حفظ القرآن الكريم في الصدور

إذا أعطى الوالد ابنه كنزا ثمينا، وعرفه قيمته، وطلب منه المحافظة عليه، والعناية به والاهتمام بتنظيفه وحراسته وجب على الولد العاقل أن يشكر أباه على ذلك، ويحافظ على الكنز الذي أهداه له بالصورة التي أوصاه بها أبوه، لأنه الأعرف بحقيقة الكنز.هذا المثل صورة بشرية معقولة، والله تعالى مع عباده المثل الأعلى، فقد أنزل الله تعالى على الناس كتابه الكريم، وحفظه لهم بلفظه ومعناه، وعلمهم قراءته، وعرفهم بأنه يحدد معالم الدين، ويوضح أركان الإسلام ، وينظم أحكام الشريعة ، ومكارم الأخلاق، وبين لهم أن حفظه وتدبره، والعمل به هو طريق تحقيق الأمن، ونشر السعادة في الدنيا والآخرة، وعرفهم بأنه كلام الله تعالى ، وخير للعبد المخلوق أن يضع كلام الله تعالى الذي خلقه ، وسواه، وأكرمه في موضعه. إن القرآن الكريم هو دستور الإسلام، وهو النور الذي أضاء الدنيا بالهداية، والخير والسلام، وهو الذي حوّل العرب من عبادة الأصنام إلى عبادة الله له ، وهو الذي جعلهم خير أمة ظهرت على وجه الأرض باتباعه والالتزام بمنهجه

12
الفصل الثالث: التدبر في معاني القرآن الكريم

القرآن الكريم كلام الله تعالى الذي أنزله على محمد ليتعبد المسلمون بقراءته، ويستفيدوا بمعانيه ، ويستنبطوا منه الأحكام والحكم التي تنظم لهم الحياة الدنيا ، وتسعدهم في الآخرة، وقد سحر العرب البلغاء بأسلوب القرآن الكريم ومعانيه، وكانوا يرون الجمال في فصاحة لفظه، ومحاسن نظمه، وإذا بهم بعد تأمل ونظر يرون فيه مجدهم ، ولسانهم، وعقلهم .

إن إعجاز القرآن الكريم في تراكيبه اللفظية، ومعانيه المستفادة من هذه التراكيب، فالألفاظ تأخذ العقل إليها، والمعاني ترسم للعقل الطريق ، وتهديه إلى سواء السبيل. ... لقد انجذب العربي بأسلوب القرآن الكريم، وأمن بما فيه فاستسلم الله رب العالمين، وجعل القرآن الكريم حياته، وعمله، وقوله، ومن إعجاز القرآن الكريم ثبوته ، وبقاؤه على الوجه الذي نزل به ، واجتماع المسلمين حوله يكتبونه ، ويحفظونه، ويفهمونه، ويعملون بتعاليمه لأنها دين الله المنزل ، وتعاليمه للعالمين

وكما وجبت المحافظة على نصوص القرآن الكريم بقراءته، وكتابته، وجب فهم معانيه من خلال تدبر ألفاظه، والوقوف على دلالاتها، وعملية التدبر عملية عقلية تعتمد على بذل الجهد في فهم معاني الكلمات بصورة كلية توصل إلى المعنى المقصود من الآيات حتى ترتبط حياة المسلم بالقرآن الكريم.

13
الفصل الرابع: التزام أحكام القرآن الكريم

أنزل الله تعالى القرآن الكريم للناس ليتحاكموا به، ويستقيموا على هديه ويسلموا كافة أمورهم الله رب العالمين الذي خلقهم، وسواهم، ورزقهم ، وأحياهم، وسوف يميتهم ، وهو العزيز الحكيم، وقد أنزل القرآن الكريم ليحكم مسيرة الحياة بكل ما فيها من مخلوقات، ويعرف المكلفين بالإسلام الذي ارتضاه لهم، وألزمهم باتباعه إلى يوم الدين .

وليس القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد المنزل ، فقد سبقه إنزال كتب عديدة أنزلها الله تعالى على رسله عليهم السلام، وبين الله تعالى أن الإيمان بنزول هذه الكتب ركن من أركان الإيمان ، فقد عرف جبريل اللي الإيمان بأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر ، فعن أبي هريرة ، قال : كان النبي ﷺ بارزا يوما للناس ، فأتاه جبريل فقال : ما الإيمان ؟ .. قال : " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ، وكتبه ، ويلقائه ، ورسله وتؤمن بالبعث "  .

وفصل علماء العقيدة في كيفية الإيمان بالكتب المنزلة ، فبينوا وجوب الإيمان الإجمالي بأن الله تعالى أنزل على رسله كتبا بعددهم لا يحصيها إلا الله تعالى ، ووجوب الإيمان التفصيلي بالكتب التي ورد ذكرها في القرآن الكريم ، وهي : " التوراة والانجيل والزبور، وصحف إبراهيم وموسى

والإيمان بهذه الكتب يقوم على الإيمان بحقيقتها التي نزلت بها من عند الله تعالى، وبذلك لا يعتد بأي دخيل فيها، ولا يؤخذ أي تحريف وقع لها، وموطن إثباتها الحق هو القرآن الكريم، فقد هيمن عليها، وبقى مع الناس على صورته التي نزل بها من عند الله تعالى، وأي تعارض في الموجود منها مع ما في القرآن الكريم مردود لا يؤبه به ، لأنه من تحريف الواضعين المبطلين، ويترتب على هذا الإيمان ضرورة اتفاق هذه الكتب مع العقيدة الدينية الثابتة على لسان الأنبياء جميعا، فالله واحد، والبشر جميعا عبيده، والتنزيه المطلق الله حق واجب وثابت.

14
الخاتمة

لقد نزل القرآن الكريم في أمة كانت تعبد الأصنام، وتتحرك في الأرض بلا منهج واحد، وبغير غاية واحدة، ضيعت حقوق الأفراد والجماعات حتى صارت مسبعة واسعة يأكل القوي فيها الضعيف، ويستعبد الملأ المساكين والفقراء، فجاءهم الإسلام بمنهج واحد ، وسجله في القرآن الكريم ، وأمرهم باتباع ما جاء فيه ، ونهاهم عن أي منهج آخر ، فقال تعالى : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَأَتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَضَكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

فلما أسلموا بصدق واتبعوا منهج القرآن الكريم بإخلاص خرجوا من ظلمات الشرك والضياع إلى نور الإسلام والقرآن ، وصاروا خير أمة في الأرض، انقذت العالم كله من الطواغيت والجبابرة، وقضت على امبراطوريتي فارس والروم، ونشرت العدل والمساواة والأخوة بين الناس أجمعين

واليوم .. ننظر حولنا فنرى المسلمين أمة ذليلة تحتاج لغيرها لتأكل وتعيش ، وتلجأ لغير المسلمين لتأخذ لنفسها منهم نظمهم، ومبادئهم، وقوانينهم، وتكتفي بشعارت الإسلام في المنتديات الثقافية ، وفي أوقات الفراغ .

وإذا لم يرجع المسسلمون لدينهم فسوف يزداد حالهم سوءا، وسوف يحتاجون أكثر لأعدائهم ، ولن يزيدهم النفاق إلا خيالا وضياعا .
إني ناصح أمين لكل مسلم يحب دينه، ويعمل لخدمته ، وأسأل الله تعالى أن ن يوفقه وسائر عباد الله لما يحب ويرضى. 
والله الموفق.

الى الاعلى